ظاهرة الدّيوان الواحد وآثارها المتوالدة
تعتري مسيرة الشّعراء ظواهر سلبيّة، تتباين قوّة وأثرا من شاعر لآخر، وهذه الظّواهر تؤدّي إلى تآكل الموهبة وانحدارها إلى حدّ الانحطاط أحيانا، ونادرا ما سلم منها شاعر كبير أو صغير، إن صحّ أن يتمّ تصنيف الشّعراء حسب هذا التّصنيف الانطباعيّ، الّذي ربّما بدا بسيطا، فإمّا أن تكون شاعرا وإمّا لا، على أنّه يحلو لي من باب القناعة الذّاتيّة الخاصّة التّفريق بين الشّاعر وكاتب الشّعر، فمع ندرة تحقّق الصّفة الأولى، تجد الكثرة الكاثرة لهؤلاء الكتبة، وهؤلاء لا يصحّ في الحالة الطّبيعيّة أن يشكّلوا ظاهرة أدبيّة، إلّا بالاعتبار السّلبيّ للظّاهرة، ليتخلّل مسيرتهم ظواهر سلبيّة أخرى ارتداديّة، فهم "لا خلاق لهم" في الشّعر وصناعته الجماليّة، ولكن لكثرتهم وخطورتهم على الشّعر والذّائقة، ولأنّهم يمارسون دورا تخريبيّا ستكون هذه الوقفة مخصّصة للحديث عنهم.
ولعلّ أوّل ظاهرة سلبيّة في مسيرة هؤلاء الكتبة هي موت الشّاعر فيهم فنيّا وجماليّا بعد الإصدار الأوّل، وكثير منهم توقّفوا بعد الخطوة الأولى، وهذا التوقّف قد يكون ناتجا عن تواضع الموهبة الشّعرية أو أنّ الشّاعر قد اقتنع أنّه وصل لحدّ الامتلاء ولم يعد بمقدوره تجاوز نفسه في ديوان جديد. سأورد مثلا لهذه الظاهرة بالشّاعرة سلمى الخضراء الجيوسي، فبعد إصدارها الدّيوان اليتيم "العودة إلى النّبع الحالم" 1964، توقّفت عن الشّعر، واشتغلت بمشروعها الثّقافيّ الخاصّ في ترجمة الأدب العربيّ إلى الإنجليزيّة، وقد حقّقت إنجازا مهمّا في هذا المشروع الّذي ما زال مستمرّا كما ذكرت في إحدى المقابلات معها. وما زلت أسأل نفسي لماذا توقفت "الخضراء" عن كتابة الشّعر دون أن أتوصّل إلى إجابة شافية؟ وفي المقابلات الصّحفيّة الّتي اطّلعت عليها يتجنب المحاورون طرح هذا السّؤال مع أنّهم يتعاملون مع "الخضراء" كشاعرة، ومثال الشّاعرة هنا مفارق جدّا لهدف هذه المقالة، فهي ليست من الكتبة المقصودين، وإن اتّفق المثال في نقطة التّوقف عند الإصدار الأوّل، لكنّ الشّاعرة تابعت مشروعا حضاريّا له مكانته في السّاحة العالميّة للأدب، فالخضراء قد استطاعت حيازة لقب شاعرة عن جدارة في زمن كان للشّعر شعراؤه ونقّاده ومتذوّقوه المعتبرون، حتّى ولو كان لها ديوان واحد. فثمّة شعراء اشتهروا بعمل أدبيّ واحد سواء أكان ديوانا أم قصيدة أم بيت شعر منفردا، فالمسألة ليست مسألة في الكثرة أساسا.
وتتولّد عن ظاهرة الإصدار الأوّل والتوقّف عنده ظواهر سلبيّة أخرى من أمثال نشوة الغرور، لاسيما وإن حالف الشّاعر الحظّ وحظي بمقابلات صحفيّة وتلفزيونيّة وإذاعيّة، وكتابات نقديّة، واحتفت به جوقة الأصدقاء من الكتبة أمثاله والمتطفّلين من النقاد الغوغائيّين، وتيسّرت له من غامض علم السّماء دار نشر تنشر له ديوانه مجّانا، فيتيه على الآخرين أنّه شاعر كبير، تنشر له هذه الدّار، أو تلك المؤسّسة، التي ستصبح في نظره دارا أو مؤسّسة مبجّلة وعظيمة، مع العلم أنّ ثمّة مخاطر كثيرة محدقة بدور النّشر الّتي تجازف وهي تنشر للشّعراء، وخاصّة إذا كان الإصدار الأوّل، ويظلّ هاجس تكدُّس النّسخ وكسادها أهمّ ما يقلق هذا النّاشر أو ذاك، عدا عن كساد سوق الشّعر بالمجمل، حتّى للشّعراء المكرّسين، فما بالكم بشاعر مبتدئ يتعلّم الخطو على أرض رخوة، فستكون المجازفة كبيرة، ولكن ربّما كان هناك ما يشجّع النّاشر على فعل هذا ليكون شجاعا جدّا إلى حدّ التّهوّر، ولكنّه على كلّ حال ناشر ممتاز وحريص على المواهب في نظر هؤلاء الكتبة وفي عين نفسه الفخورة بإنجازاتها الهائلة.
إنّ توقّف الشّاعر عند الخطوة الأولى في الشّعر، يطرح مسألة في غاية الأهميّة، وهي أنّ هؤلاء الشّعراء، أصحاب الديّوان الواحد، معدومو المشروع الشّعريّ، فهم لا يرون سبيلا ليمشوا فيه، فأغلب الشّعراء اليوم يمارسون الشّعر من أجل تزجية وقت الفراغ، وربّما هناك أهداف أخرى غير شعريّة بطبيعة الحال، مرتبطة بجنس الشّاعر أو منطلقة ومتمحورة حول أوهامه العاطفيّة المترّدية، ولذلك فإنّك ستجد هذا الشّاعر أو ذاك يتسلّى بلعبة الشّعر، منزلا إيّاه من عليائه وسطوته ليكون "علكة" مساء أو صباح لنيل الرّضا والمحبّة والإعجاب، مع أنّ الشّعر كائن ذكيّ سيفضح هؤلاء ويدير لهم ظهره، ويستعصي عليهم، فمهما حاولوا خديعته فلن يخدعوا إلّا أنفسهم، وتلك الشّلل الّتي تمجّد التّفاهة والذّباب ستصحو يوما لترى نفسها وقد تعرّت من نفسها لتضربها الرّيح بلا هوادة.
هل تراني تجاوزت أو توهّمت أشياء غير كائنة؟ ربّما لو تأمّلنا جميعا المشهد الثّقافيّ سنجد أسوأ مما قيل هنا أو ممّا لم يقل وظلّ حبيس النّفس، إن الشّعر سيّد، بل ربّما كان قدّيسا، أو وحيا علويّا، فكيف يأتي لهؤلاء؟ هل ضلّ وحيهم ليكتشف الشّعر أنّه ضلّ في اختيار نبوّته ونبوءته؟ لا شكّ في أنّ هناك مدّعين، سيقفون لا محالة عند الخطوة الأولى، لأنّك أيّها "الشّاعر" لا تستطيع أن تخدع الشّعر كلّ الوقت، ويكفيك ما مارسته من ادّعاء وحي كاذب كهمس الشّياطين، ويكفيك ما أنت فيه من نشوة كاذبة، ولتترجّل عن حصان لست فارسه وترتاح في ظلّ شجرة، فربّما أنقذتك ذات مرّة يد قدر ما، وأخذتك إلى ما يجب أن تأخذك إليه، وتذكّر ما قاله الشّاعر القديم وهو يصارع الموت، متنبّئا بما ستؤول إليه أحوال الشّعر على يديك ويدي أمثالك:
الشّعر صعبٌ وطويلٌ سلمه
إذا ارتقى فيه الّذي لا يعلمه
زلّت به إلى الحضيض قدمه
يريد أن يعربه فيعجمه
لقد ارتقيت مرتقى صعبا، ولا شكّ في أنّك ستزلّ إلى الحضيض، فما كلّ من قال القوافي شاعر، وما كلّ من عشق النّساء أميرُ.
مقالات ذات صلة
ارسال التعليق